َاعلان

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

امي وابي ومعاناتهما

حينما كنتُ طالباً في الإبتدائية ، كان أبي مشغولاً في عمله لم نكن نراه أو نجتمع به إلّا ثلاثة أيام في الشهر وغالبا أقل من ذلك  ، أجبره ظرف عمله "في ذلك الوقت" أن يغيب عنّا كون قُوْتَنا إرتبط بذلك الغياب ، لم نشعر بحجم المعاناة التي كان يقاسيها ، كانت أجمل ساعاتي حينما يأتي في ساعته المحددة عند الغروب ، عندما نسمع صوت محرك السيارة الصفراء "الشّاص" التي يمتلكها جارنا ، والتي لم يعتد أبي أن يأتينا بسواها " إلا نادرا" ، حينها أتسابق مع أخوتي كي نحمل تلك الفواكه أو ما إستطاعت ريالات جيبه تأمينه ، يالها من لحظات لا تُنتسى ، حينما كنت أراه أهوي على ركبتيه كي أقبّل أحدهما وكانت دائما اليُمنى كما أعتدت ذلك ، فيقابلني بابتسامته المعهودة ويُقبّل رأسي ثم يدخل إلى البيت ، متّجهاً إلى أبيه " جدّي" مُقبّلاً ركبته ثم إلى أمه " جدتي رحمة الله عليها" يحتظنها ويُقبّل رأسها ثم يضطجع .

نُكمل نقل ماجادت به سواعده إلى أماكنها ، ثم نلتمَّ حوله وكأننا في أريكة من حنان تحوم حولها طمأنينة وسكينة .
وهكذا عهدته إلى أن بَدأتُ أولى خُطواتي في ميدان الحياة باحثاً عن أّوّل غيابٍ لي عن عائلتي راجياً عمل أجودُ به ريالات تساعدني وأساعد والدي ثم أكْمَلْتْ مشواري.

كانت أمي في معركتها مع الحياة" ولازالتْ" تنام باكرا وتستيقظ قبل الفجر متحدّية قساوة البرد ، نافضة إغراءات الفرش ودفئه ، مُستسلمة لداعي العمل ، مُلبّية لمطالب الحياة ، مُستمتعة بأناقة الصباح ، تراقب شروق الشمس وتسمع زقزقة العصافير وصياح الديك ، لم تهتم لتشققاتٍ بدت في كفّيها أو لسعات الجو ونوباته ، أجبرتها الحياة الريفية على جدولة أوقاتها ليس كتابة إنما ممارسة ، لم تكن لديها رفيقة في ذلك الوقت سوى تلك المذيعة على ذلك الراديو الصغير والذي لم يكن يفارقها ، ونحن في نعيم الفراش نتقلّب وبين الأحلام نتسلّى وهي ترفض أن نصحو إلّا حينما يجهز الفطور ثم ننطلق إلى مدرستنا بنين وبنات.

في كثير من الليالي كانت تأتي إليّ تصحّيني كي أذهب معها لإصلاح صنّور الماء كي يتواجد في خزاننا فأقابلها بوجه عبوس ورفضٍ "وكأن الشيطان كان يتلبّسني حينها " ثم تستسلم لعاطفتها وهدوء قلبها وتذهب وحيدة لتنجز المهمّة في وحوشة الليل وكآبة الظلام وتعود إلينا مغتسلة بالمياة  ترجف وأنا الابن العاق المستسلم لخيبتي.

في يوم ما وأنا في الإعدادية دخلتُ معها في مشادة ثم تركتُ بيتنا وذهبت إلى عمتي ومكثت في بيتها ثلاثة أيام حتى تصالحتُ مع أمي وعدت ، حينها كانت عمّتي متكفّلة فيّ ، تفاجأت أنّ كل أكلٍ تُقدّمه لي هو ما أحبّه ، لم أدرك أن أمي قد أوصتها بذلك ، وأخبَرَتها بما أُحبُّ من الأكل في كل وجبة بالتفصيل…  ولا زالت عمتي الحبيبة تذكّرني بذلك للحظة.

أمي ومن مثل أمي هي الرحمة وهي النعمة ، هي مأواي حين إضطراباتي وهي النّبع الصافي ، لن ترسمها الحروف ، أو تكفي الكلمات لوصفها ، هي هبة الرّب في الحياة ، السعادة إستوطنتها حين تبتسم ، ورافق الدنيا الشؤم حين تزعل ، كُلّ النور جُمع في قلبها  ، وتزيّنت هذه الحياة بوجودها .
كيف لا وهي الحياة بكل تفاصيلها .
حفظ الله أمهاتنا ورحم الله كل أم فارقت هذه الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق